Ola El-Fouly

أول ما يقفز لذهني أسم نجيب مجفوط، أرى صورة المواطن المصري أبن الطبقة المتوسطة، ربما لأنه كان موظف في وظائف حكومية أغلب فترات حياته، وفي رأيي الموظف أي أن كانت وظيفته، يعتبر من الطبقة المتوسطة، فهو ليس غنيًا لأن دخله من الوظيفة محدود، ومطالب الحياة متزايدة حتى لو كان له دخل إضافي من أي مصدر أخر، يظل يعتبر نفسه موظف من الطبقة الوسطي.

وبالتالي الموظف هو حلقة الوصل بين كل طبقات المجتمع، فالوظيفة تتيح له التعامل مع أغلب طبقات المجتمع بسهولة، فهو بالنسبة للطبقة الفقيرة حلم ومثال يحتزى به وملجأ إذا تأزمت الأحوال، وبالنسبة للطبقة الغنية ضرورة لا غنى عنها لتسير وتيسير الأعمال، وبالتالي هو محل تقدير الجميع، وخاصة لو كان محبوب لشدة تهذيبه وتعامله السمح اللطيف مع الجميع كما هو الحال مع أديبنا المميز نجيب محفوظ.

هذا بطبيعة الحال يتيح له رؤية التفاصيل التي تكون البشر، فكل منا عبارة عن مجموعة من السلوكيات المكررة بشكل دائم، عادة لا تلفت الأنتباه لدوافعها ومنابعها الفكرية والشعورية من معتقدات ومخاوف واوهام وتصورات وثقافة وملكات ومواهب وعقد وتعليم وخبرات ولكنها المكون الأساسي لكل الناس.

فنتشابه ونختلف حسب تفاعلنا مع كل هذه المكونات، وهي في مجملها متشابهة بين كل البشر، مع الحفاظ على خصوصية مميزة لكل جماعة، وللإنسان داخل جماعته، وهذا ما رصده بوضوح نجيب محفوظ.

فالعقل الجمعي في مصر يهتم بالكبير، والحياة في كنفه وتحت جناحه، هي الراحة واليسر والإحترام والمكانة بين الناس، والطرد من جنته، هو التشرد والضياع والفقر.

وهذا تصور من وجهة نظري لا يرمز لله عز وجل، بل هو نابع من السلطة التي تتمثل في الأرض، فمالك الأرض هو السيد الذي يعمل عنده الناس، وهو صاحب البيت الكبير الذي يفرض سيطرته على المنطقة، وأعتقد أنه تصور عند كل من نشأ في بيئة زراعية، الأرض فيها مصدر الحياة والأرزاق.

والكبير عادة ظالم مستبد لأن السلطة المطلقة مفسدة للإنسان، ولكن لديه بعض جوانب رقة أو ضعف يخفيها عن العيون، وحتى عندما ينتقل الناس للحياة في المدينة يظل مفهوم الكبير مسيطر عليهم، فتتغير الأرض بصاحب البيت الكبير، أو شيخ يتبعه الناس، أو زعيم، أو حتى بلطجي أو رئيس عصابة، فحياة المدينة مختلفة لتعدد مصادر الرزق، فالأرض ليست هي المصدر الوحيد.

ولكن يظل مفهوم الكبير مسيطر لفترات طويلة، فنجد سي السيد في الثلاثية هو رأس العائلة والمتحكم في كل من فيها، رغم أنه تاجر، وليس صاحب أرض أو مصنع، ولكنه الأب بما تمثل هذه الكلمة من أحترام لرب الأسرة التي يظن أفرادها أن عقدهم سينفرط إذا خرجوا عن طاعته.

كما نجد مفهوم الكبير ممثل في الفتوة في الحارات الكثيرة التي كتب عنها، فهو أحيانًا رمز القوة الرحيمة وأحيانًا القوة الغاشمة المستبدة، ولكنه في كل الحالات المسيطر المتحكم، ويقابله المتمرد الرافض للخضوع، المقاوم للظلم، الذي يلتف حوله المظلومين، فيقوض معهم وبهم دولة الظلم ويعد الناس بالعدالة.

وقد يكون البطل رافض للسلطة السياسية متمرد عليها مثل أبطال السمان والخريف والكرنك وثرثرة فوق النيل، ولكن يجمع أبطال نجيب محفوظ اللمسة البشرية، مهما كان خارق وجبار، فهو يبرز نقاط الضعف لديه ببراعة فائقة، فيخرج عنه صفة الكمال التي تحيط بالأبطال الأسطوريين.

وهذا خطأ يقع فيه الكثير من الأدباء، ربما لأن كتابته نابعة من مشاهدة الناس في تعاملتهم اليومية، وليس من حكايات الأجداد والتراث الشعبي، الذي يتغاضى عن صغائر أبطاله ويصورهم خارقين.

أما مصدر نجيب محفوظ الأساسي هو الملاحظة الذكية التي تلتقط التميز والإختلاف بين العشرات والمئات من الناس، فيعطي لكل منهم خصوصية، ومكون يثري الشخصية الأدبية التي يخلقها على الورق، فلا تبدو باهتة مشوهة، بل عميقة أصيلة نابعة من المنظومة البشرية الحقيقية، وليست ملائكية أو شيطانية، دخيلة على الناس مغايرة لحالهم.

وهذا لا يعني أنه ينقل لنا الواقع كما هو، ولكنه يستمد منه مكونات متناثرة يدمجعا معًا حتى تناسب فكرة روايته، ثم يكملها بالخيال الخصب الواسع، ويكتبها بأسلوب أدبي بديع، فينتح عنها شخصيات نابضة بالحياة، تظل معنا نتذكرها ونتأثر بها، وهذه هي عبقرية نجيب محفوظ من وجهة نظري.  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

en_USEnglish