Ola El-Fouly
قلب الليل

قلب الليل

أسم واحدة من أروع قصص أديبنا العظيم نجيب محفوظ الذى يدهشنا فيها ببطل من المهمشين “جعفر الراوى” عجوز فقير، هل قلت فقير؟ عفوًا هذا وصف غير دقيق، معدم، رث الثياب، و شبة كفيف، ولكنه شديد الجرأة و الأعتداد بنفسه.

فهو حفيد ثرى عظيم صاحب أكبر وقف فى وزارة الأوقاف، و تبدأ الأحداث به وهو يسعى لفك وقف جده، لأنه الوريث الشرعى وحرامنه من إعتداء على حقه، أو جزء من صراعه مع جده، ويقترح عليه موظف الأوقاف الذى كان يسكن بجوار قصر جده بالحسين، أن يطلب اعانة خمسة جنيهات فيرفض.

 ثم يقص عليه حكايته الأسطورية التى لا مكان فيها للثنائيات المعتادة التى يتباها الناس، الخير والشر، و الحقيقة و الخيال، و الواقع و الأحلام، و الملائكة و الشياطين، هى خلطة سحرية تدور حولها كل الموجودات،  الجمادات و الكائنات، الأحياء منهم والأموات، من بشر وحيوانات وطيور وعفاريت وجان، كلها مكونات للخلطة العجيبة، أو عهد الأسطورة بتعبير جعفر.

و الناس كلها فى رأيه تمر بهذه المرحلة الأسطورية، وتنساها أو تنكرها لا فرق، المهم أنها فترة قصيرة من العمر، نتذوق فيها طعم الحياة بدون أحكام يفرضها علينا الأخرين، أو نتعرف فيها على عوالم مختلفة عن تلك التى نعرفها بعدها.

عندما يفرض علينا دخول السجن، والسجن هنا ليس سجن حقيقى، ولكنه سجن التقاليد والأعراف والطاعة، فلا يسمح لك ببساطة أن تكون أنت، لابد أن تدور فى دوائر معينة، وتعيش بشروط معينة، وألا تطرد من جنتهم، أوما يتصورونها جنتهم، وهو سجنهم فى نظر غيرهم.

 ربما يطرح جعفر السؤال الأكثر تعقيدًا وصعوبة رغم تكرار حدوثه، كيف تختلط السماحة والتقوى والنبل بالقسوة والجبروت والكبر فى شخص واحد، زاهد رغم الثراء الواسع يتمتع بالقوة رغم الشيخوخة وعلامات العمر وأثر فواجع الزمن وفقد الأحبة، أنه يأبى أن يكون جزء من الأسطورة القديمة، ربما لأن الجد نفسه أسطورة تمشى على قدمين .

ولا يقبل ان ينازعه سواه، هو سيد القصر يأمر فيطاع، ولا يجب أن يرفع أحد مهما كان راية العصيان، حتى لو كان وحيده الذى بقى له فى هذا العالم، والأغرب هو التفسير الذى قاله لجعفر فى ساعة مؤانسة، أنه يصنف البشر إلى نوعين: إنسان إلهى وإنسان دنياوى، من يختار الدنيا ليس له مكان عنده.

وهذا معيار يرفع به الإنسان نفسه إلى مكانة الخالق الذى يهب الحياة ومن حقه وحده أن يسلبها إن شاء، فهو يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، ولكن سيد الراوى ليس إله ولا يحق له تصنيف البشر أوالحكم عليهم، وهو ليس الوحيد مع الأسف الذى يفعل هذا، فالعالم مملوء بملياردرات يحرمون ورثتهم الشرعيين من ثرواتهم ويهبوها لقطة اوكلب، ربما لو خير هذا الكلب الملياردير، لفضل التسكع فى الشوارع مع رفاقه على هذه الثروة الطائلة.

ولكنه عناد بعض البشر الذين يتصورون أنهم فوق الخطأ، أوالكبر الذى يجعل الإنسان يدمن الطاعة ولا يتصور سواها، فنجد كثيرين يميتون أبنائهم بالحياة بفرض نوع من الدراسة يكرهه، أو زواج أو عمل أو أو أو وهو يحسب أنه يفعل الصواب، وأن ما يراه هو الحق وقد  يكون على الأفضل فعلًا،  ولكنه يحرم ابنه من الوجود، يحرمه من كينونته، من حقه فى الإختيار الذى أعطاه الله له، من التجربة والخطأ والتعلم، من حقه فى النقص البشرى الطبيعى، من أن يكون نفسه بلا زيف أوأقنعة.

 لماذا لأن الغضب يعمى الأبصار والقلوب، وهو دائمًا مدخل الشيطان للنفوس الطاهرة، أوتلك التى تظن نفسها طاهرة نقية بلا شائبة، وهذه بالطبع ليست دعوة لقبول جنوح الأبناء أوإنحرافاتهم، و لكن لإستيعاب الخطأ بالعفو، والصبر، واللين، والنصح، و الشدة، والعقاب، والتغافل، والتجاهل، والخصام، و المصاحبة، و الحب، والعطف، والصدق، و الدعاء بالهداية، وكلها ألوان كثيرة بدرجات متفاوتة، نختصرها فى ثنائية لعينة هى الأبيض والأسود ولا شئ أخر.

إنه الجنون الذى يصيبنا، فيعمينا الغرور، ونضيع حياتنا وحياة أولادنا وأحفادنا، ولا أبرر حماقات الأبناء، ولا حتى لبطلنا جعفر مغامرته الساحرة العجيبة التى لا أريد أن أحرقها لأمثالى من عشاق القراءة، أوأفرض عليهم رؤية معينة لقصة بديعة، ولكن فقط أحببت الإشارة لخطيئة اوجريمة يقترفها الكثير من الأباء فى حق أبنائهم، وهم يظنون أنهم يقوموهم وهم يكسروهم، ويحرموا أنفسهم ويحرموهم من نعمة الله، وزينة الحياة الدنيا، أما جعفر الراوى فيمكنك قراءة القصة، ولا أنصح إطلاقًا بمشاهدة الفيلم فهو بعيد تمامًا عن روعة أدب نجيب محفوظ، بعكس أفلام كثيرة حافظت على روح القصة كاللص و الكلاب مثلًا.

 على كل حال أردت فقط المشاركة فى إحتفالية ذكرى نجيب محفوظ، ولا فرق فى رأيى بين الإحتفال بالمولد أم الممات، لأن الأديب يحيى فى قلوب عشاقه، وإن غاب جسده عن الوجود، فقد ترك لنا قبس من نوره، يضيئ ظلمة الجهل وعبث العناد، و كثير من البهجة والشجن والمشاعر المتدفقة من بين السطور، تقتحم وجداننا لتغمرنا، بفن راقى باقى يتحدى الغياب والفقد، ويساعدنا على أن نكمل حياتنا العادية، بكل ما فيها من أمال، وأحزان،  وتحديات، بشئ من الصبر والقبول و السلام النفسى.

فسلامًا على روح عظيم ملاء حياتنا بحياوات مثيرة رائعة، أطفت جمالًا و سحرًا على واقعنا، ونسج منه فن راقى، إستحق به عن جدارة أرفع الجوائز، وحصل على محبة وإحترام وتقدير الملايين من عشاق الأدب الرفيع.  

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

arArabic