الزيني بركات
- يناير 4, 2024
- Ofouly
- 0
رواية تاريخية جميلة من أروع ما كتب أديبنا العظيم -عليه رحمة الله – جمال الغيطاني، ويغلب عليها طابع الغموض، تدور أحداثها في عوالم خفية تمامًا وربما مدهشة، فهي تحدثنا بإسهاب عن عالم البصاصين، أو من نسميهم اليوم الجواسيس، ومما يزيد غموضها، أن الأحداث تدور في عصر شائك بين سقوط نظام أو بتعبير هذا الوقت سلطنة، وقيام سلطنة اخرى على انقاضها.
وفهي تظهر كيف إنتهت دولة المماليك بسقوط القاهرة في أيدى العثمانيين، وعلى الرغم من الحقائق التاريخية المعروفة لنا جميعًا، ولكننا نصاب من الصفحات الأولى بكثير من التشكك لعل هناك شيء مجهول لا نعرفه، فالرواية تبدأ برصد رحالة بندقي -أي قادم من البندقية فينسيا – لحالة من الربكة، والخوف، والترقب، تصيب سكان القاهرة، نتيجة للحرب الدائرة بين جيش المماليك والعثمانلية، ولا أحد يريد أن يتصور شبح الهزيمة، أو يصرح حتى لنفسه بهذا الخاطر المرعب.
والرعب هنا ليس من جيش الغزاة فقط، ولكن من جيش خفي من البصاصين الذى يعد على الناس أنفاسهم، وعلى رأس هذا الجيش الخفي، رجل قوي هو زكريا بن راضي، يمسك بكل الخيوط بين يديه، ويعرف كل شيء عن كل الناس إلا رجل واحد غامض، مريب، غريب، يحيره، لا يوجد عنه في سجلات زكريا إلا أسمه بركات بن موسى وأربعة سطور فقط.
وسبب الحيرة ليس فقط نقص المعلومات، ولكن لأنه دفع رشوة ليتولى الحسبة كما جرت العادة في هذه الفترة، ثم رفض توليها عندما عرضها عليه السلطان الغوري سلطان المماليك، متعللًا بأنه يخاف الله، ويبكى بشدة خوفًا من هول يوم الحساب، وبالطبع طارت الأخبار بسرعة إلى عامة الناس، فتمسكوا به، وطالبوه بالموافقة على المنصب، وألحوا عليه فأصر على الرفض وبكى وتمنع، مظهرًا الزهد والورع، وذهبوا إلى شيخ له مقام كبير لدى الجميع يطالبوه بالضغط على الرجل حتى يقبل الحسبة، فيفعل نزولًا على رغبة الناس بلا إقتناع، ويبدي بعض الريبة، ولكنه إلحاح الناس تتمسكهم بالرجل، وحجتهم أنه الوحيد الذي رفض منصب عرض عليه، إذًا هو شريف في زمن الفاسدين.
فيرسل أحد تلاميذه أو مريديه أسمه سعيد يستدعيه، ويطلب منه قبول المنصب فيقبل لأن الشيخ الصالح أمره، ولا يستطيع الرفض، ومن يومها أصبح أسمه الزيني بركات، وقام بأعمال غريبة مبهرة، كالتفتيش على الاسعار ومراقبة التجار ومعاقبة الغشاشين والمحتكرين والتجار الذين يتلاعبون بالأسعار، فزادت شعبيته، وأحبه الناس.
كما أنقذ جارية رومية، ورومية هنا لا تعني من روما ولكنها تعني تركية، من رجل إشتراها وهي تصرخ ليل نهار، وتستغيث بأهل المروءة ليرحموها من الرجل الذي ترك عمله، وتفرغ لها وهي لا تطيقه، فأخذ رأي العلماء فأفتوا بضرورة أنقاذها، فهجم على بيته وأمره بعتقها، وحررها من براثنه، وحوادث كثيرة توحي أن للرجل جيوش من البصاصين، تجعله يعرف كل شيء، ولكن زكريا لا يعرف أي منهم.
وزاد من حيرته إنه لم يطلبه ولم يستعين به، أو يرسل إليه بل تجاهله تمامًا، فإضطر زكريا لمراسلته، وهنا يكتشف كبير البصاصين أن بيته مخترق، بعد أن أخبره الزيني بسر لا يعرفه سواه، وإذا وصل لأسماع السلطان تكون نهايته المحتومة.
ولكن الزيني بدلًا من إستغلال ذلك يعرض عليه التعاون، ويعينه نائب له، ويعلمه حيل تحبب الناس فيه، ويخافوه في نفس الوقت، فينتهي الصراع بين قطبين، كلًا منهما يقدر صاحبه ويهابه.
وتمضي الأحداث بمؤتمر غريب من نوعه، يجمع فيه زكريا كبار البصاصين في كل بلاد الدنيا، لتبادل الخبرات، وعندما يصور له الغرور، أنه يستطيع أن يعرف كل شيء عن كل الناس، يختفي الزيني بركات ولكنه يتوصل لمكانه بصعوبة وينقذه من موت محقق، لربما يحتاج إليه في موقف كهذا يقع فيه، فيرد له الجميل، ثم تنتهي الرواية بالحقيقة التاريخية المعروفة، وهي سقوط السلطنة في يد العثمانلية، ولكن المفاجأة الختامية تفوق كل التوقعات، ولن أحرقها لأنها بالفعل رواية جديرة بالقراءة، ومملوءة بالأحداث والتفاصيل الدقيقة المتشابكة والتي لن تجتمع خيوظها إلا مع كلمة النهاية.
وتشير الرواية بوضح إلى أن الهزيمة لا تأتي من الخارج بل من الداخل عندما يتغلغل الفساد في مفاصل الدول، ويحل الخوف من الحكام محل الثقة بهم، والتعاون معهم، للنهوض بالبلاد، والعمل على رفعتها، وتقدمها، فبلاد الخوف لا تبدع، ولا تنتج، فالتقدم لا ولن يكون إلا بإصلاح الأخطاء.
وهو ما يسمى في الشرع، بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهو واجب على كافة الناس، ولكل الناس الحكام والمحكومين، وليس حكر على فئة بعينها، وهذا لا يمنع أن من واجب الحكام تعيين بعض المسئولين عن مراقبة الأسواق، ونشر العدل بين الناس، والضرب على يد الظالم، ونصرة المظلوم، ولكن عندما يتحول هؤلاء المسئولين إلى فاسدين يسرقون أقوات الناس، ويحسبون عليهم أنفاسهم، وينشرون الرعب والزعر، ويروعون الرعية بدلًا من حمايتها، يكونون سبب في سقوط النظام أي نظام.
الرواية تستحق القراءة والتأمل، لما فيها من حكمة بالغة، ولغة بليغة، وحقائق مريرة، وهو حديث ذو شجون، ولكنه قاله للذكرى، لعل الذكرى تنفع المؤمنين.